فصل: كِتَابُ الرَّهْنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الرَّهْنِ:

الرَّهْنُ لُغَةً: حَبْسُ الشَّيْءِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: جَعْلُ الشَّيْءِ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ كَالدُّيُونِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَبِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ بِهِ دِرْعَهُ»، وَقَدْ انْعَقَدَ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ فَيُعْتَبَرُ بِالْوَثِيقَةِ فِي طَرَفِ الْوُجُوبِ وَهِيَ الْكَفَالَةُ.
قَالَ: (الرَّهْنُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَيَتِمُّ بِالْقَبْضِ) قَالُوا: الرُّكْنُ الْإِيجَابُ بِمُجَرَّدِهِ، لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَالْقَبْضُ شَرْطُ اللُّزُومِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَلْزَمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ فَأَشْبَهَ الْكَفَالَةَ.
وَلَنَا مَا تَلَوْنَاهُ وَالْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ الْفَاءِ فِي مَحَلِّ الْجَزَاءِ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ لِمَا أَنَّ الرَّاهِنَ لَا يَسْتَوْجِبُ بِمُقَابِلَتِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا، وَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْضَائِهِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ وَذَلِكَ بِالْقَبْضِ ثُمَّ يُكْتَفَى فِيهِ بِالتَّخْلِيَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ قَبْضٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ مَشْرُوعٍ، فَأَشْبَهَ قَبْضَ الْمَبِيعِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الْمَنْقُولِ إلَّا بِالنَّقْلِ لِأَنَّهُ قَبْضٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ابْتِدَاءً بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ نَاقِلٌ لِلضَّمَانِ مِنْ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ بِمُوجِبٍ ابْتِدَاءً وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
قَالَ: (وَإِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ مَحُوزًا مُفْرَغًا مُتَمَيِّزًا تَمَّ الْعَقْدُ فِيهِ) لِوُجُودِ الْقَبْضِ بِكَمَالِهِ فَلَزِمَ الْعَقْدُ (وَمَا لَمْ يَقْبِضْهُ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَهُ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَنْ الرَّهْنِ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللُّزُومَ بِالْقَبْضِ إذْ الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ قَبْلَهُ.
الشرح:
كِتَابُ الرَّهْنِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ».
قُلْت: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ»، انْتَهَى.
وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ: ثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْبُيُوعِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، وَلَقَدْ «رَهَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْعًا لَهُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا لِأَهْلِهِ»، مُخْتَصَرٌ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ دِرْعَهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ، عَلَى ثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَخَذَهَا رِزْقًا لِعِيَالِهِ»، انْتَهَى.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَهَذَا الْيَهُودِيُّ اسْمُهُ: أَبُو الشَّحْمِ، هَكَذَا وَقَعَ مُسَمًّى فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْبُيُوعِ.
قَالَ: (وَإِذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ فَقَبَضَهُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ قَالَهَا ثَلَاثًا: لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» قَالَ وَمَعْنَاهُ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ فَبِهَلَاكِهِ لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ اعْتِبَارًا بِهَلَاكِ الصَّكِّ وَهَذَا لِأَنَّ بَعْدَ الْوَثِيقَةِ يَزْدَادُ مَعْنَى الصِّيَانَةِ، وَالسُّقُوطُ بِالْهَلَاكِ يُضَادُّ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ إذْ الْحَقُّ بِهِ يَصِيرُ بِعَرَضِ الْهَلَاكِ وَهُوَ ضِدُّ الصِّيَانَةِ، وَلَنَا «قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَمَا نَفَقَ فَرَسُ الرَّهْنِ عِنْدَهُ ذَهَبَ حَقُّك» وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إذَا عُمِّيَ الرَّهْنُ فَهُوَ بِمَا فِيهِ» مَعْنَاهُ عَلَى مَا قَالُوا إذَا اشْتَبَهَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ بَعْدَمَا هَلَكَ.
وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّتِهِ فَالْقَوْلُ بِالْأَمَانَةِ خَرْقٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» عَلَى مَا قَالُوا الِاحْتِبَاسُ الْكُلِّيُّ وَالتَّمَكُّنُ بِأَنْ يَصِيرَ مَمْلُوكًا لَهُ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ السَّلَفِ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ، وَالْحَبْسِ لِأَنَّ الرَّهْنَ يُنْبِئُ عَنْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» وَقَالَ قَائِلُهُمْ: وَفَارَقَتْكَ بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقَا وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَنْعَطِفُ عَلَى الْأَلْفَاظِ عَلَى وَفْقِ الْأَنْبَاءِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً إلَيْهِ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ لَهُ بِمِلْكِ الْيَدِ وَالْحَبْسِ لِيَقَعَ الْأَمْنُ مِنْ الْجُحُودِ مَخَافَةَ جُحُودِ الْمُرْتَهِنِ الرَّهْنَ وَلِيَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَيَتَسَارَعَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لِحَاجَتِهِ أَوْ لَضَجَرِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ وَجْهٍ، وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ فَلَوْ اسْتَوْفَاهُ ثَانِيًا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا بِخِلَافِ حَالَةِ الْقِيَامِ، لِأَنَّهُ يَنْقُضُ هَذَا الِاسْتِيفَاءَ بِالرَّدِّ عَلَى الرَّاهِنِ، فَلَا يَتَكَرَّرُ وَلَا وَجْهَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْبَاقِي بِدُونِهِ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وَالِاسْتِيفَاءُ يَقَعُ بِالْمَالِيَّةِ.
أَمَّا الْعَيْنُ فَأَمَانَةٌ حَتَّى كَانَتْ نَفَقَةُ الْمَرْهُونِ عَلَى الرَّاهِنِ فِي حَيَاتِهِ وَكَفَنِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ وَكَذَا قَبْضُ الرَّهْنِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَاهُ الْمُرْتَهِنُ لِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فَلَا تَنُوبُ عَنْ قَبْضِ ضَمَانٍ وَمُوجِبُ الْعَقْدِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَهَذَا يُحَقِّقُ الصِّيَانَةَ، وَإِنْ كَانَ فَرَاغُ الذِّمَّةِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ كَمَا فِي الْحَوَالَةِ.
فَالْحَاصِلُ: أَنَّ عِنْدَنَا حُكْمَ الرَّهْنِ صَيْرُورَةُ الرَّهْنِ مُحْتَبَسًا بِدَيْنِهِ بِإِثْبَاتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ اسْتِيفَاءً مِنْهُ عَيْنًا بِالْبَيْعِ وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَدَدْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى جُمْلَةً.
مِنْهَا: أَنَّ الرَّاهِنَ مَمْنُوعٌ عَنْ الِاسْتِرْدَادِ لِلِانْتِفَاعِ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ مُوجِبَهُ وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ عَلَى الدَّوَامِ وَعِنْدَهُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي مُوجِبَهُ وَهُوَ تَعَيُّنُهُ لِلْبَيْعِ، وَسَيَأْتِيك الْبَوَاقِي فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشرح:
الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ قَالَهَا ثَلَاثًا لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ».
قُلْت: أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ وَالْأَرْبَعِينَ، مِنْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي الْبُيُوعِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِمَّنْ رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ»، انْتَهَى.
قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَعْلَى الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، لِاخْتِلَافٍ فِيهِ عَلَى أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ تَابَعَ زِيَادَ بْنَ سَعْدٍ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي دَاوُد الْحَرَّانِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، ثُمَّ أَخْرَجَ أَحَادِيثَهُمْ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَقَالَ: هَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ مُتَّصِلٌ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرٍ الْأَصَمِّ الْأَنْطَاكِيِّ ثَنَا شَبَابَةُ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، فَذَكَرَهُ، وَصَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَأَرَاهُ إنَّمَا تَبِعَ فِي ذَلِكَ أَبَا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْبَرِّ، فَإِنَّهُ صَحَّحَهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ هَذَا لَا أَعْرِفُ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مِنْ حَالِهِ شَيْئًا، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ أَحَادِيثَ مُنْكَرَةً: مِنْهَا هَذَ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ فِي التَّنْقِيحِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرٍ الْأَصَمُّ الْبَزَّارُ الْأَنْطَاكِيُّ لَيْسَ بِذَاكَ الْمُعْتَمَدِ، وَقَدْ رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَابْنِ عُلَيَّةَ، وَمَعْنِ بْنِ عِيسَى، وَابْنِ فُضَيْلٍ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو دَاوُد: وَقَوْلُهُ لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ مِنْ كَلَامِ سَعِيدٍ، نَقَلَهُ عَنْهُ الزُّهْرِيُّ، وَقَالَ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، انْتَهَى.
قُلْت: يُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَخْبَرْنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِمَّنْ رَهَنَهُ»، قُلْت لِلزُّهْرِيِّ: أَرَأَيْت قَوْلَ الرَّجُلِ: لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ، أَهُوَ الرَّجُلُ يَقُولُ: إنْ لَمْ آتِكَ بِمَالِك، فَالرَّهْنُ لَك؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ مَعْمَرٌ: ثُمَّ بَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ هَلَكَ لَمْ يَذْهَبْ حَقُّ هَذَا، إنَّمَا هَلَكَ مِنْ رَبِّ الرَّهْنِ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ، انْتَهَى.
ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِمَّنْ رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ»، انْتَهَى.
وَلَمْ يَرْوِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مُسْنَدًا أَصْلًا، وَكَذَلِكَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِهِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَغُنْمُهُ زِيَادَتُهُ، وَغُرْمُهُ هَلَاكُهُ وَنَقْصُهُ، انْتَهَى.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّصِلًا أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى عَدِيدَةٍ، ذَكَرَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَجْوَدُ طُرُقِهِ الْمُتَّصِلَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: وَقَدْ صَحَّحَ اتِّصَالَ هَذَا الْحَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَعَبْدُ الْحَقِّ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ مُرْسَلًا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ مُرْسَلًا، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ، انْتَهَى.
قَوْلُهُ: فِي الْكِتَابِ: قَالَهَا ثَلَاثًا، لَمْ أَجِدْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ زَادَ فِي مَتْنِ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: كَانُوا يَرْهَنُونَ، وَيَقُولُونَ: إنْ جِئْتُك بِالْمَالِ إلَى وَقْتِ كَذَا، وَإِلَّا فَهُوَ لَك، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، انْتَهَى.
وَيَنْظُرُ الدَّارَقُطْنِيُّ هَلْ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ؟.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: «قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَمَا نَفَقَ فَرَسُ الرَّهْنِ عِنْدَهُ: ذَهَبَ حَقُّك».
قُلْت: أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً يُحَدِّثُ «أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ فَرَسًا، فَنَفَقَ فِي يَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُرْتَهِنِ: ذَهَبَ حَقُّك»، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي أَثْنَاءِ الْبُيُوعِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ بِهِ، قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَضَعِيفٌ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: وَمُصْعَبُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، ضَعِيفٌ، كَثِيرُ الْغَلَطِ، وَإِنْ كَانَ صَدُوقًا، انْتَهَى.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إذَا عُمِّيَ الرَّهْنُ فَهُوَ بِمَا فِيهِ».
قُلْت: رُوِيَ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا.
فَالْمُسْنَدُ: رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ غَالِبٍ ثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ رَوْحٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ»، انْتَهَى.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذَا لَا يَثْبُتُ عَنْ حُمَيْدٍ، وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَيْخِنَا كُلُّهُمْ ضُعَفَاءُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، قَالَ: وَهَذَا بَاطِلٌ عَنْ حَمَّادٍ، وَقَتَادَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ هَذَا يَضَعُ الْحَدِيثَ، انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ: الْأَوَّلُ فِيهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبٍ، وَهُوَ غُلَامُ خَلِيلٍ، كَانَ كَذَّابًا، يَضَعُ الْحَدِيثَ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ رَوْحٍ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: مَجْهُولٌ، وَهِشَامُ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَنْفَرِدُ عَنْ الثِّقَاتِ بِالْمُعْضَلَاتِ، وَفِي الثَّانِي: إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: يَضَعُ الْحَدِيثَ، وَسَعِيدُ بْنُ رَاشِدٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، انْتَهَى.
وَأَمَّا الْمُرْسَلُ: فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ الرَّمْلِيِّ ثَنَا الْوَلِيدُ ثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ»، انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: مُرْسَلٌ صَحِيحٌ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ طَاوُسٍ مَرْفُوعًا، نَحْوَهُ سَوَاءً، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، قَالَ: إنَّ نَاسًا يُوهِمُونَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِيمَا أَخْبَرْنَا الثِّقَةُ مِنْ الْفُقَهَاءِ، إذَا هَلَكَ وَعُمِّيَتْ قِيمَتُهُ، يُقَالُ حِينَئِذٍ لِلَّذِي رَهَنَهُ: زَعَمْتَ أَنَّ قِيمَتَهُ مِائَةُ دِينَارٍ، أَسَلَّمْتَهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا، وَرَضِيتَ بِالرَّهْنِ، وَيُقَالُ لِلْآخَرِ: زَعَمْتَ أَنَّ ثَمَنَهُ عَشْرَةُ دَنَانِيرَ، فَقَدْ رَضِيتَ بِهِ عِوَضًا مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا، وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، قَالَ: أَدْرَكْتُ مِنْ فُقَهَائِنَا الَّذِينَ يُنْتَهَى إلَى قَوْلِهِمْ: مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ فِي مَشْيَخَةٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ، أَهْلِ فِقْهٍ، وَصَلَاحٍ، وَفَضْلٍ، فَذَكَرَ مَا جَمَعَ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ فِي كِتَابِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، أَنَّهُمْ قَالُوا: الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ، إذَا كَانَ هَلَكَ، وَعُمِّيَتْ قِيمَتُهُ، وَيَرْفَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ الثِّقَةُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ، انْتَهَى.
قَوْلُهُ: وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّتِهِ.
قَالَ: (وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِدَيْنٍ مَضْمُونٍ) لِأَنَّ حُكْمَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَيَدْخُلُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الرَّهْنُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهَا وَلَا دَيْنَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ فِيهَا هُوَ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخْلَصٌ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ وَهُوَ دَيْنٌ وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا، وَلَئِنْ كَانَ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الْهَلَاكِ وَلَكِنَّهُ يَجِبُ عِنْدَ الْهَلَاكِ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ، وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ فَيَكُونَ رَهْنًا بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ فَيَصِحُّ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ، وَلِهَذَا لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ بِهِ بِهَلَاكِهِ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ.
قَالَ: (وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَقِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ فَالْفَضْلُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ) وَلِأَنَّ الْمَضْمُونَ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ وَذَلِكَ بِقَدْرِ الدَّيْنِ.
(فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ وَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ بِالْفَضْلِ) لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ بِقَدْرِ الْمَالِيَّةِ.
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ وَقِيمَتُهُ يَوْمَ الرَّهْنِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَالدَّيْنُ أَلْفٌ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِخَمْسِمِائَةٍ، لَهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ فِي الرَّهْنِ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الدَّيْنِ مَرْهُونَةٌ لِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً بِهِ، فَتَكُونُ مَضْمُونَةً اعْتِبَارًا بِقَدْرِ الدَّيْنِ.
وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ، فَلَا تُوجِبُ الضَّمَانَ إلَّا بِالْقَدْرِ الْمُسْتَوْفَى كَمَا فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ وَالزِّيَادَةُ مَرْهُونَةٌ بِهِ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ حَبْسِ الْأَصْلِ بِدُونِهَا وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الضَّمَانِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّرَادِّ فِيمَا يُرْوَى حَالَةُ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرْتَهِنُ أَمِينٌ فِي الْفَضْلِ.
الشرح:
قُلْت: قَوْلُهُ: عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ فِي الرَّهْنِ.
قُلْت: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي أَثْنَاءِ الْبُيُوعِ أَخْبَرْنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ بَيْنَهُمَا فِي الرَّهْنِ، انْتَهَى.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ثَنَا سُفْيَانُ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ خِلَاسٍ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: إذَا كَانَ فِي الرَّهْنِ فَضْلٌ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَالرَّهْنُ بِمَا فِيهِ، فَإِنْ لَمْ تُصِبْهُ جَائِحَةٌ، فَإِنَّهُ يُرَدُّ الْفَضْلُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَمَا رَوَاهُ خِلَاسٌ عَنْ عَلِيٍّ أَخَذَهُ مِنْ صَحِيفَةٍ، قَالَ ابْنُ مَعِينٍ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ: وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: إذَا كَانَ الرَّهْنُ أَفْضَلَ مِنْ الْقَرْضِ، أَوْ كَانَ الْقَرْضُ، أَفْضَلَ مِنْ الرَّهْنِ، ثُمَّ هَلَكَ يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْهُ، قَالَ: إذَا كَانَ الرَّهْنُ أَقَلَّ رُدَّ الْفَضْلُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ.
قَوْلُهُ: وَمَذْهَبُنَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعُمَرَ.
قُلْت: أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ، قَالَ فِي الرَّجُلِ يَرْتَهِنُ الرَّهْنَ، فَيَضِيعُ، قَالَ: إنْ كَانَ أَقَلَّ مِمَّا فِيهِ رَدَّ عَلَيْهِ تَمَامَ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، فَهُوَ أَمِينٌ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّحَاوِيُّ عَنْهُ، قَالَ: إذَا كَانَ الرَّهْنُ بِأَكْثَرَ مِمَّا رَهَنَ بِهِ، فَهُوَ أَمِينٌ فِي الْفَضْلِ، وَإِذَا كَانَ بِأَقَلَّ رَدَّ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: هَذَا لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عَنْ عُمَرَ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ غَرِيبٌ.
قَوْلُهُ: وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرْتَهِنُ أَمِينٌ فِي الْفَضْلِ.
قُلْت: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَامِرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إذْ كَانَ الرَّهْنُ أَكْثَرَ مِمَّا رَهَنَ بِهِ فَهَلَكَ، فَهُوَ بِمَا فِيهِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْفَضْلِ، وَإِذَا كَانَ أَقَلَّ مِمَّا رَهَنَ بِهِ فَهَلَكَ، رَدَّ الرَّاهِنُ الْفَضْلَ، انْتَهَى.
وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ عُمَر حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عِمْرَانَ الْقَطَّانِ عَنْ مَطَرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عُمَرَ، قَالَ: إذَا كَانَ الرَّهْنُ أَكْثَرَ مِمَّا رَهَنَ بِهِ فَهُوَ أَمِينٌ فِي الْفَضْلِ، وَإِذَا كَانَ أَقَلَّ رَدَّ عَلَيْهِ، انْتَهَى.
قَالَ: (وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُطَالِبَ الرَّاهِنَ بِدَيْنِهِ وَيَحْبِسَهُ بِهِ) لِأَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ بَعْدَ الرَّهْنِ وَالرَّهْنُ لِزِيَادَةِ الضَّمَانِ فَلَا تَمْتَنِعُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ وَالْحَبْسُ جَزَاءَ الظُّلْمِ فَإِذَا ظَهَرَ مَطْلُهُ عِنْدَ الْقَاضِي يَحْبِسُهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ فِيمَا تَقَدَّمَ.
(وَإِذَا طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِ الرَّهْنِ) لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ مَالَهُ مَعَ قِيَامِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ.
(وَإِذَا أَحْضَرَهُ أُمِرَ الرَّاهِنُ بِتَسْلِيمِ الدَّيْنِ إلَيْهِ أَوَّلًا) لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهُ كَمَا تَعَيَّنَ حَقُّ الرَّاهِنِ تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ كَمَا فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ يُحْضِرُ الْمَبِيعَ ثُمَّ يُسَلَّمُ الثَّمَنَ أَوَّلًا.
(وَإِنْ طَالِبَهُ بِالدَّيْنِ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ فِيهِ إنْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ) لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ كُلَّهَا فِي حَقِّ التَّسْلِيمِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِيمَا لَيْسَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيهِ فِي بَابِ السَّلَمِ بِالْإِجْمَاعِ.
(وَإِنْ كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يَسْتَوْفِي دَيْنَهُ وَلَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ) لِأَنَّ هَذَا نَقْلٌ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ بِمَعْنَى التَّخْلِيَةِ لَا النَّقْلُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ زِيَادَةَ الضَّرَرِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ.
(وَلَوْ سَلَّطَ الرَّاهِنُ الْعَدْلَ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ فَبَاعَهُ بِنَقْدٍ أَوْ نَسِيئَةً جَازَ) لِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ (فَلَوْ طَالِبَ الْمُرْتَهِنُ بِالدَّيْنِ لَا يُكَلَّفُ الْمُرْتَهِنُ إحْضَارَ الرَّهْنِ) لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْإِحْضَارِ.
(وَكَذَا إذَا أَمَرَ الْمُرْتَهِنُ بِبَيْعِهِ فَبَاعَهُ وَلَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ) لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا بِالْبَيْعِ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ فَصَارَ كَأَنَّ الرَّاهِنَ رَهَنَهُ وَهُوَ دَيْنٌ.
(وَلَوْ قَبَضَهُ يُكَلَّفُ إحْضَارَهُ) لِقِيَامِ الْبَدَلِ مَقَامَ الْمُبْدَلِ إلَّا أَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ الثَّمَنِ هُوَ الْمُرْتَهِنُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ فَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ وَكَمَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ لِاسْتِيفَاءِ كُلِّ الدَّيْنِ يُكَلَّفُ لِاسْتِيفَاءِ نَجْمٍ قَدْ حَلَّ لِاحْتِمَالِ الْهَلَاكِ، ثُمَّ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِهِ لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْعَيْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ الْعَبْدَ الرَّهْنَ خَطَأً حَتَّى قُضِيَ بِالْقِيمَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لَمْ يُجْبَرْ الرَّاهِنُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ حَتَّى يُحْضِرَ كُلَّ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ خَلَفٌ عَنْ الرَّهْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِهَا كُلِّهَا كَمَا لَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِ كُلِّ عَيْنِ الرَّهْنِ، وَمَا صَارَتْ قِيمَةً بِفِعْلِهِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ صَارَ دَيْنًا بِفِعْلِ الرَّاهِنِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا.
(وَلَوْ وَضَعَ الرَّهْنَ عَلَى يَدِ الْعَدْلِ وَأَمَرَ أَنْ يُودِعَهُ غَيْرَهُ فَفَعَلَ ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَهِنُ يَطْلُبُ دَيْنَهُ لَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ) لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَمَنْ عَلَيْهِ حَيْثُ وُضِعَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَسْلِيمُهُ فِي قُدْرَتِهِ.
(وَلَوْ وَضَعَهُ الْعَدْلُ فِي يَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ وَغَابَ وَطَلَبَ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ وَاَلَّذِي فِي يَدِهِ يَقُولُ: أَوْدَعَنِي فُلَانٌ وَلَا أَدْرِي لِمَنْ هُوَ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ) لِأَنَّ إحْضَارَ الرَّهْنِ لَيْسَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا.
(وَكَذَلِكَ إذَا غَابَ الْعَدْلُ بِالرَّهْنِ وَلَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ) لِمَا قُلْنَا (وَلَوْ أَنَّ الَّذِي أَوْدَعَهُ الْعَدْلُ جَحَدَ الرَّهْنَ وَقَالَ: هُوَ مَالِي لَمْ يَرْجِعْ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِشَيْءٍ حَتَّى يُثْبِتَ كَوْنَهُ رَهْنًا) لِأَنَّهُ لَمَّا جَحَدَ الرَّهْنَ فَقَدْ تَوِيَ الْمَالُ، وَالْتَوَى عَلَى الْمُرْتَهِنِ، فَيَتَحَقَّقَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ وَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ.
قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ الْبَيْعِ حَتَّى يَقْضِيَهُ الدَّيْنَ) لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحَبْسُ الدَّائِمُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.
(وَلَوْ قَضَاهُ الْبَعْضَ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ كُلَّ الرَّهْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْبَقِيَّةَ) اعْتِبَارًا بِحَبْسِ الْمَبِيعِ (فَإِذَا قَضَاهُ الدَّيْنَ قِيلَ لَهُ سَلِّمْ الرَّهْنَ إلَيْهِ) لِأَنَّهُ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ التَّسْلِيمِ لِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ.
(فَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ اسْتَرَدَّ الرَّاهِنُ مَا قَضَاهُ) لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا عِنْدَ الْهَلَاكِ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ، فَكَانَ الثَّانِي اسْتِيفَاءً بَعْدَ اسْتِيفَاءٍ فَيَجِبَ رَدُّهُ.
(وَكَذَلِكَ لَوْ تَفَاسَخَا الرَّهْنَ لَهُ حَبْسُهُ مَا لَمْ يَقْبِضْ الدَّيْنَ أَوْ يُبْرِئْهُ، وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الرَّاهِنِ عَلَى وَجْهِ الْفَسْخِ) لِأَنَّهُ يَبْقَى مَضْمُونًا مَا بَقِيَ الْقَبْضُ وَالدَّيْنُ.
(وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ سَقَطَ الدَّيْنُ إذَا كَانَ بِهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ) لِبَقَاءِ الرَّهْنِ (وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ لَا بِاسْتِخْدَامٍ وَلَا بِسُكْنَى وَلَا لُبْسٍ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمَالِكُ) لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْحَبْسِ دُونَ الِانْتِفَاعِ.
(وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ إلَّا بِتَسْلِيطٍ مِنْ الرَّاهِنِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ وَيُعِيرَ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَلَايَةُ الِانْتِفَاعِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ تَسْلِيطَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مُتَعَدِّيًا وَلَا يَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالتَّعَدِّي.
قَالَ: (وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْفَظَ الرَّهْنَ بِنَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ الَّذِي فِي عِيَالِهِ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ فِي عِيَالِهِ أَيْضًا، وَهَذَا لِأَنَّ عَيْنَهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ (وَإِنْ حَفِظَهُ بِغَيْرِ مَنْ فِي عِيَالِهِ أَوْ أَوْدَعَهُ ضَمِنَ) وَهَلْ يَضْمَنُ الثَّانِيَ؟ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَمِيعَ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ فِي الْوَدِيعَةِ.
(وَإِذَا تَعَدَّى الْمُرْتَهِنُ فِي الرَّهْنِ ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ) لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مِقْدَارِ الدَّيْنِ أَمَانَةٌ، وَالْأَمَانَاتُ تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي.
(وَلَوْ رَهَنَهُ خَاتَمًا فَجَعَلَهُ فِي خِنْصَرِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالِاسْتِعْمَالِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْإِذْنُ بِالْحِفْظِ وَالْيُمْنَى وَالْيُسْرَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ (وَلَوْ جَعَلَهُ فِي بَقِيَّةِ الْأَصَابِعِ كَانَ رَهْنًا بِمَا فِيهِ) لِأَنَّهُ لَا يُلْبَسُ كَذَلِكَ عَادَة فَكَانَ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ، وَكَذَا الطَّيْلَسَانُ إنْ لَبِسَهُ لُبْسًا مُعْتَادًا ضَمِنَ وَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ لَمْ يَضْمَنْ.
(وَلَوْ رَهَنَهُ سَيْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَتَقَلَّدَهَا لَمْ يَضْمَنْ فِي الثَّلَاثَةِ وَضَمِنَ مِنْ السَّيْفَيْنِ) لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بَيْنَ الشُّجْعَانِ بِتَقَلُّدِ السَّيْفَيْنِ فِي الْحَرْبِ وَلَمْ تَجْرِ بِتَقَلُّدِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ لَبِسَ خَاتَمًا فَوْقَ خَاتَمٍ إنْ كَانَ هُوَ مِمَّنْ يَتَجَمَّلُ بِلُبْسِ خَاتَمَيْنِ ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَجَمَّلُ بِذَلِكَ فَهُوَ حَافِظٌ فَلَا يَضْمَنُ.
قَالَ: (وَأُجْرَةُ الْبَيْتِ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ الرَّهْنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْحَافِظِ وَأُجْرَةُ الرَّاعِي وَنَفَقَةُ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ) وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ الرَّهْنِ وَتَبْقِيَتِهِ فَهُوَ عَلَى الرَّاهِنِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الرَّهْنِ فَضْلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَكَذَلِكَ مَنَافِعُهُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَيَكُونَ إصْلَاحُهُ وَتَبْقِيَتُهُ عَلَيْهِ، لِمَا أَنَّهُ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ وَذَلِكَ مِثْلُ النَّفَقَةِ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ وَأُجْرَةُ الرَّاعِي فِي مَعْنَاهُ، لِأَنَّهُ عَلَفُ الْحَيَوَانِ، وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ كِسْوَةُ الرَّقِيقِ وَأُجْرَةُ ظِئْرِ وَلَدِ الرَّهْنِ وَسَقْيُ الْبُسْتَانِ وَكَرْيُ النَّهْرِ وَتَلْقِيحُ نَخِيلِهِ وَجُذَاذُهُ وَالْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ، وَكُلُّ مَا كَانَ لِحِفْظِهِ أَوْ لِرَدِّهِ إلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ لِرَدِّ جُزْءٍ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مِثْلُ أُجْرَةِ الْحَافِظِ، لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ حَقٌّ لَهُ وَالْحِفْظَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَيَكُونَ بَدَلُهُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَجْرُ الْبَيْتِ الَّذِي يُحْفَظُ الرَّهْنُ فِيهِ، وَهَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كِرَاءَ الْمَأْوَى عَلَى الرَّاهِنِ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ سَعْيٌ فِي تَبْقِيَتِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ جُعِلَ الْآبِقُ فَإِنَّهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى إعَادَةِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ لِيَرُدَّهُ، فَكَانَتْ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَيَلْزَمُهُ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ وَالدَّيْنِ سَوَاءً.
وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ، وَعَلَى الرَّاهِنِ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَالرَّدُّ لِإِعَادَةِ الْيَدِ، وَيَدُهُ فِي الزِّيَادَةِ يَدُ الْمَالِكِ إذْ هُوَ كَالْمُودَعِ فِيهَا، فَلِهَذَا يَكُونُ عَلَى الْمَالِكِ وَهَذَا بِخِلَافِ أُجْرَةِ الْبَيْتِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّ كُلَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ فَضْلٌ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْحَبْسِ وَحَقُّ الْحَبْسِ فِي الْكُلِّ ثَابِتٌ لَهُ، فَأَمَّا الْجَعْلُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ لِأَجْلِ الضَّمَانِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ.
قَالَ: (وَمُدَاوَاةُ الْجِرَاحَةِ وَمُعَالَجَةُ الْقُرُوحِ وَمُعَالَجَةُ الْأَمْرَاضِ وَالْفِدَاءُ مِنْ الْجِنَايَةِ تَنْقَسِمُ عَلَى الْمَضْمُونِ وَالْأَمَانَةِ وَالْخَرَاجُ عَلَى الرَّاهِنِ خَاصَّةً) لِأَنَّهُ مِنْ مُؤَنِ الْمِلْكِ.
قَالَ: (وَالْعُشْرُ فِيمَا يَخْرُجُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ) لِتَعَلُّقِهِ بِالْعَيْنِ، وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْبَاقِي لِأَنَّ وُجُوبَهُ لَا يُنَافِي مِلْكَهُ بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ.
قَالَ: (وَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا مِمَّا وَجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ، وَمَا أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ بِأَمْرِ الْقَاضِي رَجَعَ عَلَيْهِ) كَأَنَّ صَاحِبَهُ أَمَرَهُ بِهِ لِأَنَّ وَلَايَةَ الْقَاضِي عَامَّةٌ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ حَاضِرًا وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهِيَ فَرْعُ مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.